شرح "دار المقامة" (في ضوء كلام العرب)

شرح "دار المُقامَةِ"

(في ضوء كلام العرب)

د. أورنك زيب الأعظمي[1]

سمَّى الله تعالى الدار التي يدخلها المتقون وعباده الصالحون بأسماء عديدة، وكُلُّها تدلُّ على جهة من جهات هذه الدار فسمَّاها ﴿ دَارُ الْقَرَارِ ﴾ [غافر: 39]، وسمَّاها ﴿ دَارُ السَّلَامِ ﴾ [الأنعام: 127]، وأسماها ﴿ جَنَّاتُ عَدْنٍ ﴾ [البينة: 8] و ﴿ دَارَ الْمُقَامَةِ ﴾ [فاطر: 35] و﴿ دَارُ الْمُتَّقِينَ ﴾ [النحل: 30]، وكذا عنونها بـ ﴿ وَلَدَارُ الْآخِرَةِ ﴾ [النحل: 30] أو ﴿ وَالدَّارُ الْآخِرَةُ ﴾ [الأعراف: 169] وأخيرًا عبَّر عن هذه النعم كلها بـ ﴿ الْفَوْزُ الْكَبِيرُ ﴾ [البروج: 11].

واليوم نتحدَّث عن "دار المُقامةِ" التي قال فيها الله تعالى: ﴿ وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ * الَّذِي أَحَلَّنَا دَارَ الْمُقَامَةِ مِنْ فَضْلِهِ لَا يَمَسُّنَا فِيهَا نَصَبٌ وَلَا يَمَسُّنَا فِيهَا لُغُوبٌ ﴾ [فاطر: 34، 35] في ضوء كلام العرب، فنرى ماذا كان يفهم بها العرب الأوَل.

الإقامة هي القيام كما قال ثعلبة بن صُعَير:

سَئِمَ الإقامةَ بعد طولِ ثوائه وقضى لبانتَه فليس بناظر[2]

وهي غير السفر كما قال سميرة بن الجعد:

ولله لا يخفى عليه صنيعُنا حفيظٌ علينا في المقام وفي السفر[3]

والمُقام مصدر ميمي، وظرف مكان، واسم مفعول، فلمعنى المصدر الميمي قول تأبط شرًّا التالي:

ونارٍ قد حضأتُ بُعَيدَ هَدءٍ بدارٍ ما أريدُ بها مُقاما[4]

وقال بشر بن أبي خازم الأسدي:

فإنَّ مُقامَنا ندعو عليكم بأسفلِ ذي المجاز له أثام[5]

ولظرف المكان قول حسان بن ثابت التالي:

ملأتْ به الفرجين فارمدَّت به وثوى أحبته بشرِّ مُقام[6]

وقول كعب بن مالك الأنصاري:

سيُدخِلُه جنانًا طيِّباتٍ تكون مُقامةً للصالحينا[7]

وقول جران العود:

عشيّةَ ما فيمَنْ أقام بغُرّبٍ مُقامٌ ولا فيمَنْ مضى متسرَّع[8]

وإذا أضيفت عنتْ مكانَ قرار وثبات كما قال امرؤ القيس:

وإذا أذيتُ ببلدةٍ ودَّعتُها ولا أقيم بغير دارِ مُقَام[9]

وقال النابغة الذبياني:

نمينَ قلالَه من بيتِ راس إلى لقمانَ في سوقٍ مُقام[10]

وقال امرؤ القيس أيضًا:

قالوا له هل أنت قاضٍ ما ترى إنا نرى لك ذا المقام قليلا[11]

وقال مهلهل بن ربيعة:

وبيوتَ قيسٍ قد وطأنا وطأةً فتركنا قيصًا غيرَ ذاتِ مقام[12]

والتاء للمبالغة فالإقامة والمقامة هي القيام الثابت والمحكم كما مضى قول تأبَّط شرًّا التالي:

ونارٍ قد حضأتُ بُعَيدَ هَدءٍ بدارٍ ما أريدُ بها مُقاما[13]

وقال أبو جلدة اليشكري:

كأنكم جِعلانُ دارِ مُقامةٍ على عذراتِ الحيّ أصبحنَ وُقَّعا[14]

وقال تعالى: ﴿ وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَامًا * إِنَّهَا سَاءَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا ﴾ [الفرقان: 65، 66].

والتاء للمبالغة أيضًا في المَقامة (من القيام) كما قال عمرو بن قميئة:

لعمري لنعم المرءُ تدعو بحبله إذا ما المنادي في المَقامة ندَّدا[15]

فالمقامة: المجلس هنا.

والإقامةُ حياةٌ ملؤها أمن كما قال تأبط شرًّا:

فقلت لها: يومان، يومُ إقامة أهزُّ به غصنًا من البان أخضرا ويومٌ أهزُّ السيف في جيدِ أغيدٍ له نسوة لم تلق مثلي أنكر ينحن عليه وهو ينزع نفسَه: لقد كنتَ أبَّاء الظُّلامة قسورا[16]

والعرب كانوا يصفون دار الإقامة أن تكون الدار على مرتفع كما قال أمية بن أبي الصلت:

إنَّ وَجًّا وما يلي بطونَ وجٍّ دارُ قومي بربَوةٍ ورُتوق[17]

وقال كثيِّر عزة يذكر دار الإقامة كأنها مما يعلي شأنه:

فإنْ تك في مصرٍ[18] بدارِ إقامةٍ مجاورةً في الساكنين رمالَها ستأتيك بالركبان خُوصٌ عوامد يُعارضنَ مُبراةً شدَدْتُ حبالَها[19]

وقال عبدالله بن الحجاج:

بيتُ أبو العاصي بناه بربوةٍ عالي المَشَارف عِزُّه ما يُدفَعُ[20]

وقال أبو الأسود الدؤلي:

بنى لك عبدُ الله بيتًا بيافعٍ على كلِّ وادٍ حوله وطريق[21]

وأن تكون سماوته علياء كما قال امرؤ القيس:

ففئنا إلى بيتٍ بعلباءَ مُردَح سماوتُه من أتحميّ معصَّب[22]

وأن تكون رحب الفناء كما قال الفرزدق:

أنا ابن الجبال الشُمِّ في عددِ الحصى وعرقُ الثرى في عِرقي، فمن ذا يحاسبه وبيتي إلى جنبٍ رحيبٍ فناؤه ومن دونه البدرُ المُضيءُ كواكبُه[23]

وأن تكون واسعة ذات حدائق وحور كما قال حسان بن ثابت يصوِّر خير دار عنده:

أبلغْ عبيدًا[24] بأني قد تركت له من خير ما تترك الآباء للولد الدار واسعة والنخل شارعة والبيض يرفلن في القسي كالبرد[25]

وأن تكون آمنة وثابتة كما قال البرج الطائي:

تركنا قومَنا من حربِ عامٍ ألا يا قومِ للأمر الشتات وأخرجنا الأيامى من حصون بها دارُ الإقامة والثبات[26]

وأن تكون ذات ثبات وشرف كما قال زهير بن أبي سلمى:

قومًا ترى عِزَّهم، والفخرَ إنْ فخروا في بيتِ مكرمة، قد لُزَّ بالقمر[27]

وقال عنترة بن شداد العبسي:

أيا عزَّنا لا عزَّ في الناس مثلُه على عهد ذي القرنين لن يتهدَّما إذا خطرتْ عبسٌ ورائي بالقنا علوتُ بها بيتًا من المجد مُعلَما[28]

والمعلم: هو البارز.

وقال معن بن أوس:

إنَّ بمدفع الملحاء قصرًا قواعده على شرفٍ مقيم جزاك الله يا عمر بن حفص عن الإخوان جناتِ النعيم[29]

وأن تكون ذات شرف وقوة ومنع للأعداء فقال الكميت الأسدي:

فحلُّوا دارَ مكرمة وعزٍّ نفوا عنها أيادي شانئينا[30]

وأن تكون قادرة على منع كل عدوٍّ وصيانة كلِّ من آوى إليها، فقال سويد بن كراع العكلي:

نُقيمُ على دار الحفاظ بيوتَنا ونقسم أسرى بيننا وغنائم[31]

وقال الكميت الأسدي:

نحن الذين علمتَ من آبائهم يومَ الفخار فإنني أتمضَّر الطالعون إذا الطلائعُ أحصرتْ والعالمون يقين ما يتخيَّر المُقدِمون إذا الكتائبُ أحجمتْ والعاطفون إذا استضاف المُحجر النازلون بكلِّ دارِ حفيظة عرضٍ تُراحُ بها العِشارُ وتُنحَر والضاربون رئيسَ كلِّ كتيبة قوَّاد مملكة عليه المغفر والطاعنون زُوَيرَ كلِّ كتيبةٍ حتى يضرجه النجيعُ الأحمر[32]

وقد جمع هذه الأوصافَ حسانُ بن ثابت الأنصاري فقال:

لنا حَرَّةٌ مأطورةٌ بجبالها بنى المجدُ فيها بيتَه فتأهَّلا بها النخلُ والآطامُ تجري خلالها جداوِلُ قد تعلو رقاقًا وجَرولا إذا جدولٌ منها تصرَّم ماؤه وصلنا إليه بالنواضح جدولا على كلِّ مِفْهاقٍ خسيفٍ غروبُها تُفَرِّغُ في حوضٍ من الصخر أنجَلا له غللٌ في ظلِّ كلِّ حديقةٍ يعارضُ يَعبوبًا من الماء سلسلا إذا جئتَها ألفيتَ في حجراتها عناجيجَ قُبًّا والسوامَ المُؤبَّلا جعلنا لها أسيافنا ورِماحَنا من الجيش والأعراب كهفًا ومعقِلا إذا جمعوا جمعًا سمونا إليهم بهِندِيَّةٍ تُسقى الذُّعافَ المُثَمَّلا[33]

وفوق تلك أن تكون بعيدة عن أي فحشاء كما قال محمد بن كعب الغنوي:

أخي ما أخي لا فاحشٌ عند بيته ولا ورَعٌ عند اللقاء هَبُوب[34]

ومثل هذه الدار يأملها الجميع، فقال كعب بن سعد الغنوي:

ومنزلةٍ في دارِ صدقٍ وغِبْطةٍ وما اقتالَ مِن حُكمٍ عليَّ طبيبُ[35]

وقال أمية بن أبي الصلت يصف دار المتقين، والصدق يعني الثبات:

فليسوا ميِّتين فيستريحوا وكلُّهم بحرِّ النار صال وحلَّ المتَّقون بدارِ صدقٍ وعيشٍ ناعمٍ تحت الظلال[36]

ولقد وصف القرآن أعلى منها وأجلَّ؛ ولكن وصفه أيضًا يبنى على ما كان يتخيَّله العرب الأشراف.

المصادر والمراجع:

1- القرآن الكريم.

2- جمهرة أشعار العرب في الجاهلية والإسلام لأبي زيد محمد بن أبي الخطاب القرشي، تحقيق: محمد علي البجاوي، نهضة مصر للطباعة والنشر والتوزيع، د.ت.

3- ديوان أبي الأسود الدؤلي، صنعة: أبي سعيد الحسن السكَّري، تحقيق: الشيخ محمد حسن آل ياسين، دار ومكتبة الهلال، ط2، 1998م.

4- ديوان الأصمعيات، تحقيق: أحمد محمد شاكر، وعبد السلام هارون، دار المعارف بمصر، ط3.

5- ديوان الفرزدق، شرح الأستاذ علي فاعور، دار الكتب العلمية، بيروت، ط1، 1987م.

6- ديوان النابغة الذبياني بشرح وتقديم: عباس عبدالساتر، دار الكتب العلمية، بيروت، 1996م.

7- ديوان امرئ القيس، ضبطه وصحَّحه: الأستاذ مصطفى عبد الشافي، دار الكتب العلمية، بيروت، 2004م.

8- ديوان أمية بن أبي الصلت، جمع وتحقيق ودراسة: د. عبد الحميد السطلي، دمشق، 1974م، د.ت.

9- ديوان بِشر بن أبي خازم الأسدي، تقديم وشرح: مجيد طراد، دار الكتاب العربي، بيروت، ط1، 1994م.

10- ديوان تأبط شرًّا وأخباره، جمع وتحقيق وشرح: علي ذو الفقار شاكر، دار الغرب الإسلامي، ط1، 1984م.

11- ديوان جران العود النميري، دار الكتب المصرية، القاهرة، ط3، 2000م.

12- ديوان حسان بن ثابت، شرح وتقديم: الأستاذ عبدأ مهنا، دار الكتب العلمية، بيروت، لبنان، ط2، 1994م.

13- ديوان عمرو بن قَمِيْئَة، تحقيق وشرح وتعليق: حسن كامل الصيرفي، معهد المخطوطات العربية، جامعة الدول العربية، 1965م.

14- ديوان كُثَيِّر عَزَّة، جمع وشرح: د. إحسان عبَّاس، دار الثقافة، بيروت، لبنان، 1971م.

15- ديوان كعب بن مالك الأنصاري دراسة وتحقيق: سامي مكي العاني، منشورات مكتبة النهضة، بغداد، ط1، 1966م.

16- ديوان معن بن أوس المزني، صنعة: د. نوري حمودي القيسي، وحاتم صالح الضامن، دار الجاحظ، بغداد، 1977م.

17- ديوان مهلهل بن ربيعة، شرح وتقديم: طلال حرب، الدار العالمية، د.ت.

18- شرح ديوان الحماسة، كتب حواشيه: غريد الشيخ، وضع فهارسه العامة: أحمد شمس الدين، دار الكتب العلمية، بيروت، 2000م.

19- شرح ديوان عنترة بن شداد العبسي، للعلامة التبريزي، دار الكتاب العربي، ط1، 1992م.

20- شعر الخوارج، جمع وتحقيق: د. إحسان عباس، دار الثقافة، بيروت، لبنان، 1974م.

21- شعراء أمويون، د. نوري حمودي القيسي، مكتبة النهضة العربية، بيروت، ط1، 1985م.

22- عشرةُ شعراء مقلِّون، صنعة: أ.د. حاتم صالح الضامن، وزارة التعليم العالي والبحث العلمي، جامعة بغداد، العراق، 1990م.

23- مجلة المورد الفصلية الصادرة عن وزارة الثقافة والإعلام، دار الجاحظ للنشر، العراق.

24- موسوعة شعراء العصر الجاهلي لعبد عون الروضان، دار أسامة للنشر والتوزيع، الأردن، ط1، 2001م.